"طافت القلوب ولم تطف الأبدان..." كان هذا هو رد الشيخ الكبير الكفيف الذي وصف الحرم فلم ينقص منه شيئا، بل ربما تسمع وصفه من مبصر فلا يستطيع أن يصفه كما وصفه هذا الشيخ، وكانت المفاجأة عندما سأله أحد الحضور عما إذا كان قد حج أو اعتمر أم لا –وكنا نعتبر هذا السؤال من فضلة القول لأنه بالتأكيد زاره أكثر من مرة على هذا الوصف- فجاء رده مفاجئا لتوقعاتنا: "طاف القلب... ولم يطف البدن بعد!!".
وبقدر ذهولي من إجابته فقد كانت أعجب من وصفه الحرم وما فيه وما تشعره عن أداء كذا وكذا.. لقد كانت معبرة إلى أبعد الحدود عن رجل هزه الشوق إلى زيارة البيت العتيق، إذا كانت الكتب والحكايات كافية ليعرف أوصاف البيت وأركانه وأوصافه فإنها لن تجمع أبدا مشاعر الحاج عند كل منسك.. وهذا ما حكاه ووصفه الرجل الكفيف بجانب أشكال وأوصاف الحرم والمناسك.
كلمات قليلة ظلت تطوف بفكري كلما رأيته، وبعدها بأيام عندما كنت أقرأ له شيئًا سألته عن حديثه ذلك ووصفه وكيف أنه لم يزر البيت بعد... كانت عيناه تترقرق حينما قال: "هيـيـيـه يا شهاب.. كم من حاج مضى إلى خالقه دون طواف أو سعي.. أتظن من يخلع ثيابه حاجا؟.. إنه من ينخلع قلبه ويهوي فؤاده لتلبية النداء".
كان يكفي لتفهم معنى الشوق إلى زيارة البيت العتيق، وتعلق الأفئدة بتلبية نداء ربها أن تسمع شيخنا هذا يتمثل بأبيات عبد الرحيم البرعي من على منبره مخاطبًا الحجيج:
يا راحلين إلى منى بفؤادي *** شوقتموا يوم الرحيل قيادي
بالله يا زوار قبر محمدٍ *** من كان منكم رائحا أو غادي
فليبلغ المختار ألف تحيةٍ *** من عاشق متقطع الأكبادِ
ربما فهمت الكلمات حينها بعقلي، ولكني لم أدركها، أدركتها عندما عشت استعدادات الحج بين الحجاج.. ثم سافروا إلى الحج ولم أسافر، وظللت أتابعهم على شاشات التلفيزيون وأسمع تلبيتهم وتكبيرهم، أراهم يطوفون فيطوف قلبي معهم.. كم من دمعة ذرفتها لأني كنت أتمنى أن أكون هناك ألبي معهم.
فهمت بعد ذلك أن لله حجاجا يقصدون ولا يصلون.. ولله أناسا وصلوا ولم يقصدوا فليسوا بحجاج، فهمت معنى أن "الحج هو القصد" كما يعرفونه، وما معنى أن تقصد ويحرم قلبك بنزع الهوى وحب الدنيا قبل أن يحرم جسدك بنزع المخيط.
عرفت كيف يهوي الفؤاد مع الأفئدة التي تهوي مصداقا لدعوة سيدنا إبراهيم، وكيف يطوف القلب، وفهمت كيف تغزل شيخي الكفيف في ألوان حمام الحرم وأمانه وطوافه وشكله..
عرفت قلوبا تسعى للقاء ولا تدركه، فتلبي.. وتحرم.. وتطوف.. وتقف.. وتدعوا.. وترجوا.. وتأمل مغفرة الله.
وربما تدرك تلك القلوب من روحانيات الحج وفيوضه ما يدركه من كان بمكة أو عرفات محرما حينها.. ولعلها تدرك ذلك من مغفرة الله ورحمته أيضا.
بت ليلة عرفة أحلم بمناسك الحج كاملة، حتى مشقته وزحام الحجاج.. وأطعمت حمام الحمى بعضا من الحبوب والخبز الذي كان معي، واستيقظت لأجد الحجاج يقفون بعرفة، لم أتمالك نفسي فلبيت ورددت معهم ويوم التحلل ذهبت فقصرت شعري كما لو كنت حاجًّا معهم..
بعدها فهمت كيف تطوف القلوب قبل الأبدان.
لا تضيعوا هذه الأيام المباركات.. ورحبوا معي بـ"د.مرح" مدونا معنا
هناك 12 تعليقًا:
بارك الله فيك شهاب الازهر
وجعل هذا الموضوع الجميل في ميزان
حسناتك ورزقك حسن استغلال هذه الايام
المباركة
وكل عام وانت الى الله اقرب
وعلى طاعته ادوم
واهلاً ومرحباً بد. مرح
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
ما زينت جنـــه لأمة مثل هذه الأمة
ولكــــــــــــن .......
لا نـــرى لهــا عاشـــــــقا !!
ففي ربعهم لله بيت مبارك = إليه قلوب الخلق تهوى وتهواه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه = ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فكم لذة كم فرحة لطوافه = فلله ما أحلى الطواف وأهناه
نطوف كأنا في الجنان نطوفها = ولا هم لا غم فذاك نفيناه
فواشوقنا نحو الطواف وطيبه = فذلك شوق لا يعبر معناه
فمن لم يذقه لم يذق قط لذة = فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه
فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا = هناك تركناها فيا كيف ننساه
ترى رجعة هل عودة لطوافنا = وذاك الحمى قبل المنية نغشاه
ووالله ما ننسى زمان مسيرنا = إليه وكل الركب قد لذ مسراه
وقد نسيت أولادنا ونساؤنا = وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه
تراءت لنا أعلام وصل على اللوى = فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه
جعلنا إله العرش نصب عيوننا = ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه
وسرنا نشق البيد للبلد الذي = بجهد وشق للنفوس بلغناه
رجالاً وركبانا على كل ضامر = ومن كل ذي فج عميق أتيناه
نخوض إليه البر والبحر والدجى = ولا قاطع إلا وعنه قطعناه
ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا = فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه
ولا صدنا عن قصدنا فقد أهلنا = ولا هجر جار أو حبيب ألفناه
وأموالنا مبذولة ونفوسنا = ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه
عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله = فهان علينا كل شيء بذلناه
فمن عرف المطلوب هانت شدائد = عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه
فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة = حيارى سكارى نحو مكة وُلاه
فلله كم ليل قطعناه بالسرى = وبر بسير اليعملات بريناه
وكم من طريق مفزع في مسيرنا = سلكنا وواد بالمخاوف جزناه
ولو قيل إن النار دون مزاركم = دفعنا إليها والعذول دفعناه
فمولى الموالي للزيارة قد دعا = أنقعد عنها والمزور هو الله
ترادفت الأشواق واضطرم الحشا = فمن ذا له صبر وتضرم أحشاه
وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى = وولى الكرى نوم الجفون نفيناه
كل عام وأنت بخير وتقبل الله منا ومنك
وما أروع أيضا أن تطوف القلوب والأبدان
جزاكم الله خيرا على التذكرة
و أهلا و سهلا بدكتور مرح
أنا أول ما شفت إسمه ف فريق عمل المدونة
كنت ناوى أسألك عليه
يالا لعله خير
شهاب الازهر
ايه الغيبة الطويلة دي
على الله يكون المانع خير
وان شاء الله يكون عوداً حميدأ
اللهم ان كنت تعلم منى شوقا خالصا لزيارة بيتك..وقلبايهفو حباووجدا للتحليق فى رحاب روضة نبيك..فارزقنى بعزتك ومقدرتك حجة مبرورةوميتةسعيدة فى احب بقاع الارض اليك وابعثنى يوم القيامة مع من يبتهلون..لبيك اللهم لبيك
اكرمك الله اخى وتدوينتك من اجمل ما قرات عن مكابدة الشوق للبيت الحرام
الله
جميل
فعلا لجدير بهذا ان يطوف قلبه
من ستشعر هذه المعانى وغلبه الشوق هكذا قد يحصل الثواب وهو فى فراشه
منعهم العذر
ونسألأ الله ان نصل لهذه الدرجة
ومرحبا بـ د/مرح
اهلا بهفى المدونة
وستزداد بريقاان شاء الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ها قد أتى العيد وآبائنا الأحرار خلف القضبان
حسبنا الله ونعم الوكيل
نسألكم الدعاء
جزيتم خيرا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
HTTP://IKWAN.MAKTOOBBLOG.COM
سبحان الله
ومن الناس من
طافت أبدانهم ولم تطف قلوبهم
وأناس قلوبهم أبت إلا أن تظل معلقة في الأستار
جزاكما الله خيرا
ومرحبا بـ د. مرح
الأخ الكريم : شهاب الأزهر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحيى طرحك الطيب القيم
وما حوى من درساً بل دروس
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها
بارك الله فيك أخى الكريم
أخوك
محمد
ما اروع طواف القلوب
مع الابدان ..
ليكن طوافا كاملا متكامل
نسال الله ان تكون في الطواف العام
القادم هنيئا لعيون دامعة
مشتاقة لزيارة بيت الله الحرام
شرفني المرور علي تدوينتكم
دمتم بحفظ الله
ولا تنسونا من صالح الدعاء
تقبلوا تحياتي
إرسال تعليق