29‏/11‏/2014

القفا.. الاغتيال الأبيض في بر مصر

لا تزهق الأرواح ولا تسيل الدماء، لكنها "رصاصة اغتيال" لا تخطئ هدفها، و لا يمكن أن تمنعها البوابات الإلكترونية أو أجهزة الكشف عن المفرقعات، يقترب حينها "القناص" من ضحيته حتى المسافة "صفر" خلسة.. يسحب يده في خفة، فينطلق عقبها صوت انفجاري محدود؛ ليتوارى الضحية بعدها عن الأنظار ويختفي عن المشهد الذي كان يملؤه، خجلا من الإهانة التي لحقت وشاهدها الملايين عبر شاشات التلفاز ومقاطع الإنترنت.

"القفا".. وسيلة الاغتيال الأحدث للشخصيات العامة في مصر، أو "الرصاصة الصامتة" التي غيّبت مشاهر ملؤوا الدنيا ضجيجا ولو لفترة محدودة بعد شعور الضحية بالإهانة البالغة التي نزلت به.

ومنذ ثورة الخامس والعشرين من يناير مرت رصاصة القفا على عديد من تلك الشخصيات؛ بينها السيد البدوي رئيس حزب الوفد، وأحمد دومة الناشط السياسي، وسما المصري الراقصة الشهيرة وأحمد ماهر مؤسس 6 أبريل وممدوح الوالي نقيب الصحفيين ومحمد البلتاجي القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، وانتهاء بيوسف الحسيني المذيع بقناة "أون تي في" ومرتضى منصور الذي يعد آخر المغتالين بـ "القفا".


قفا الخمسينيات.. وقفا الثورة

تائهٌ جره قدره العثر من بلدته الصغيرة إلى أسواق القاهرة الصاخبة، يظهر خلفه من يترصده، ودون أن يرحم معاناته، يبل أصابعه بريقه؛ ثم يرفع يده عاليا في الهواء ليهوي بها على قفاه.. يستدير ممسكا بمن ضربه: "إيه ده دي؟!".."دي دمغة السوق".. فيرد بخوف ووجل: "الله يسامحك"، وهنا تدخل سيدة فائقة الجمال إلى الحوار في سخرية: "هاهاهاأوأوأو .. صحتين وعافية على بدنك يا تلح.. طويل وعريض كده ويتفصل منك إتنين، وتتلزق قلم ماتمدش إيدك وترده"، وهنا يبرر رضاه بالمذلة: "عايز آكل عيش".

مشهد شهير في فيلم الفتوة 1957 يجسد استئساد الأقوياء على الضعفاء، وتعمد إذلالهم بالضرب على قفاهم.. غير أنه ما بين خمسينيات القرن الماضي ومصر ما بعد 25 يناير 2011 تبادل الطرفان أدوارهم، وأصبح القفا وسيلة المستضعفين لكسر سطوة المشاهير ودفعهم إلى التواري عن المشهد دون إراقة دماء، وذلك عبر اغتيالهم معنويا "اغتيالا أبيض".
الأستاذ الدكتور محمد المهدي استشاري الطب النفسي يرى أن "ضرب القفا" بمثابة اغتيال معنوي للشخصيات العامة؛ يلجأ إليه المعتدي عندما يشعر بأنه لا وسيلة للحوار أو لا جدوى للحوار من المعتدى عليه، فيلجأ للانتقام منه ليشفي غليله عندما يدرك أنه لا سبيل للتفاهم.

وأضاف المهدي في لقاء تلفزيوني سابق أن "الضرب على القفا" يعتبر وسيلة متقدمة من الاغتيال المعنوي، الذي قد يقتصر على الكلمات الحادة ثم السباب ثم الاعتداء البدني الرمزي مثل "القفا" الذي يعد إهانة للمعتدى عليه تسبب ألما نفسيا أكبر بكثير من مداه البدني أو الحسي.

وبذلك يؤرخ الدكتور المهدي إلى هذا التحول في اللجوء إلى "ضرب القفا"، من تعبير عن المهانة إمعانا في إذلال المستضعفين أصلا؛ إلى تلك الرصاصة الموجهة إلى صدور الأقوياء والمشاهير لتكسر كبرياءهم وتعصف بهيبتهم، محاولة لدفعهم إلى التواري عن المشهد أو الانتقام من آرائهم ومواقفهم السياسية.

مرتضى الأحدث.. والبلتاجي الأول.. والبدوي الأشهر

ويعد "مرتضى منصور" رئيس نادي الزمالك أحدث الذين سعى ألتراس مشجعي النادي نفسه "وايت نايتس" لاغتيالهم برصاصة القفا، حيث بث الـ "وايت نايتس" مقطع فيديو على صفحتهم الرسمية تظهر اثنين من أعضائه يقوم أحدهما بترصد مرتضى وصفعه على قفاه، بينما يرشه الثاني بمياه مجاري.

وتأتي تلك المحاولة في ظل تدهور العلاقة المرير بين مرتضى والألتراس واستعانة الأول بسلطات الدولة ضدهم وتحرير محاضر ورفع دعاوى قضائية للمطالبة باعتبار تلك الرابطة التشجيعية منظمة إرهابية.

وإذا كان مرتضى هو آخر الذين استخدم ضدهم سلاح القفا، فإن أولهم بعد ثورة 25 يناير هو الدكتور "محمد البلتاجي" القيادي بجماعة الإخوان المسلمين الذي تم الاعتداء عليه عند محاولته دخول ميدان التحرير من قبل شباب غاضبين من موقف الجماعة إزاء أحداث محمد محمود.

غير أن "القفا" الأشهر بعد الثورة كان ضد رئيس حزب الوفد الدكتور "السيد البدوي" الذي تم استهدافه داخل الميدان هذه المرة، وذلك من قبل أحد الشباب الذين لم تعرف هويتهم الحزبية أو السياسية، كما رفض البدوي الإفصاح عن ذلك رغم تأكيداته أنه تم الإمساك بالشاب واعترف له عمن قام بتحريضه على ذلك.

ماهر القضاء.. ودومة الإرشاد

وعلى درجات دار القضاء العالي، لم يسلم مؤسس حركة 6 أبريل أحمد ماهر من الاعتداء عليه بضرب القفا هو الآخر، وذلك أثناء أحد فعاليات واحتجاجات الحركة.

ومن عتبات القضاء إلى محيط مكتب الإرشاد، حيث قام شباب من جماعة الإخوان المسلمين بمواجهة مظاهرة لناشطين في محيط مكتب الإرشاد بدعوى محاولتهم الاعتداء على ممتلكات الجماعة، وقام حينها أحد الشباب بضرب الناشط السياسي أحمد دومة على قفاه.

نقابي.. وإعلامي.. ورقاصة

وبخلاف السياسيين، فإن النقابي الصحفي ممدوح الولي نقيب الصحفيين لم يفلت هو الآخر من اعتداء بضرب القفا عند محاولته ركوب سيارته أمام النقابة أثناء مظاهرة لصحفيين معارضين بدعوى موالاته لنظام الإخوان الحاكم حينها، ورغم محاولة الولي الانضمام إليهم وإظهار التضامن مع مطالبهم فإنهم رفضوا وقفته معهم، وجرى ضربه بـ "القفا" لدى محاولته الانصراف.

كما كان للإعلاميين نصيب، حيث لم يقتصر ضرب القفا على الحدود المصرية، بل قام معارضون لنظام ما بعد 3 يوليو 2013 بضرب المذيع يوسف الحسيني على قفاه عند وصوله نيويورك، حيث احتشد المعارضون في استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي باغتهم بالخروج من باب آخر، ولدى رؤيتهم للحسيني الذي بادلهم المشادات الكلامية والسباب ضربه أحدهم بعلم في يده على قفاه.

حتى الراقصة سما المصري كذلك كان لها نصيب من ذلك، وتداول الناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطعا يظهر الاعتداء عليها.

وفي مفارقة طريفة، هاجم الإعلامي توفيق عكاشة الشعب المصري على قناة الفراعين مؤكدا أن الشعب يحب الضرب على قفاه، وأنه يكون في منتهى السعادة عندما تتوالى الأقلام على الشعب حتى يتورم قفاه.

كما ظهر في أحد البرامج الرياضية الإعلامي مدحت شلبي ساخرا من أحد المشجعين الذي أصر على الوقوف في مواجهة الكاميرا ليظهر في عبر شاشات الفضائيات، حتى رغم تكرار ضربه على قفاه ممن خلفه في محاولة لصرفه عن وقفته.

ليست هناك تعليقات: