14‏/05‏/2009

خبِّروا عن فلسطين!!..

خبِّروا عن فلسطين!!..




"خبِّروا عنا يا أخ شهاب.. احكوا عنا الله يكرمكم"، قالها.. وانقطع الاتصال مجددا.. هكذا كانت كلماته قوية وصامدة، ولكنها حزينة في الوقت ذاته.. أتت لتضع على كاهلنا عبئا ثقيلا؛ أن نحكي للناس ونخبرهم بالحقيقة، الحقيقة التي شوهتها الأكاذيب، وأحيانا التصديق المتعمد للأكاذيب لمجرد الفرار من الواجب الثقيل!.




أتت مكالمته الأخيرة هذه أيام الحرب سريعة وخاطفة، يسابق الزمن قبل أن ينقطع الاتصال مجددا؛ ففي غزة لا كهرباء، والثواني المحسوبة التي يمكن فيها للهاتف المحمول أن يعمل كانت تنهال فيها المكالمات ليطمئن الجميع عليهم..




كان له سؤال وحيد في تلك المكالمة، كان عن الناس والأهل في مصر: هل يعرفون الحقيقة أم لا؟.. سكتُّ ثانيتين وقلت له: نعم طبعا.. الكل يدعو لكم، تنهد تنهيدة حملت مرارة وحرارة القنابل التي يمطرونها عليهم، وحملنا ذلك العبء، أن نحمي ظهورهم..




كنت أحكي لشباب والأطفال عن فلسطين وأرضها، عن أهلي وأصحابي الذين أفتقدهم هناك، أحكي لهم قصة صمود شعبنا المقاوم، أصف لهم دروب العزة التي لم أرها وإنما سمعت وصفها من أهل فلسطين الذين التقيناهم وقت سقوط جدار الاستبداد..




قباب الأقصى ونزيف الدم




أمشي وكأن قباب المسجد الأقصى ومآذنه تتراءى أمامي، ودروب القدس تناديني، ونسمات رطبة من أشجار الزيتون تداعب وجناتي.. تماما كأحلام المقاومين البواسل.




كنت أتصور في المساء وكأن ظهري يستند إلى ظهر أخي في ميدان الرباط، وأرسم له ملامح في مخيلتي، وكأن رصاصه ينطلق باتجاه، وكلماتي تحمي ظهره من اتجاه ثان!!..




يا لها من عبثية.. لقد كانوا يواجهون الموت مرارا وتكرارا بأمل وثقة عجيبة، وكانت محاولاتنا لحماية ظهورهم تأتي يائسة ضعيفة، حتى عندما كانت تكون قوية مفعمة بالأمل، كانت تستمد أملها وقوتهم من نبرات صمودهم العذبة، وثقتهم الثابتة بنصر غدا قريبا.




وأتت رسالة جديدة من أرض العزة، كان نصه: "على أي حال.. اذكروا رجالا ماتوا بعزة أو عاشوا أعزة"..




في هذه الليلة كان الهجوم البري ضاريا، وكانت المقاومة باسلة، وكنت أرتعد ما بين بكاء بين يدي ربي دعاء بالتثبيت.. أو رجاء أمام الأخبار أن تكون سارة.. وحينها أحسست بضعفي وقوتهم، فهم يسكبون الدماء في الوقت الذي نسكب فيه الدموع.




كنت أحاول على فترات إمساك هاتفي لمكالمة أشخاص وحثهم على القيام والدعاء أو إرسال رسائل قصيرة بالأخبار لعلي أنجز طرفا من وصية رجل في غزة، وأكتفي بالمتابعة باقي الفترات، كانت محنة نفسية قاسية أن تشعر بالعجز عن نصرة أخيك، وأن يكون كل ما تستطيعه هو كلمات وجنيهات..




عبير غزة أم القدس




كنت أعرف يقينا أن الحرب قادمة، وكتبت قبلها بأيام موضوعا عن غزة وسكوت القهر الذي يلف أوضاعها وحصارها، وكنت أعرف أنها أيام أو ساعات لتبدأ.. أعرف ذلك بعيدا عن تحليل أوضاع أو إخبار أحد، فقط كنت أعرف.. لست أدري كيف!!.. ربما كنت أستنشق عبير الجنة التي تزينت لشهداء عما قليل سيبيتون فيها، كان زكيا لدرجة أنك تعرف أنه ليس عبيرا أرضيا، ولكنه نفحة علوية، وريح سماوية تحمل عبيرا لم يتم تخليقه من عناصر مسها الطين.




أمسك هاتفي وتراودني نفسي لمحاولة الاتصال بأخي ولكن.. لم أستطع الاتصال بأحد من أهل غزة بعد هذه الليلة خجلا منهم؛ خاصة عندما علمت استشهاد أبناء عمومته وتسوية منزله بالأرض، حتى انتهت المعركة، وكلمته.. جاء صوته يحمل مزيجا عجيبا من فرحة النصر وألم فراق الأحباب، قال لي: بالأمس صلينا على طبيب مصري كان مرابطا معنا، كان هناك وفد من أطباء مصر أخبرناهم وحضروا معنا الصلاة وشاركوا في دفنه".. صمت واعتصرت في داخلي خجلا عندما شكرني بحرارة ودعا لي وكأنني أديت لهم شيئا.




ذاك العبير الذي داعبني قبيل أيام غزة حملته لي رياح الصباح، ربما ليس بذات الكثرة، وربما هو شعور داخلي لاعتزامي أداء العمرة، وربما لتكرار زيارة غريبة ومريبة لمسئول صهيوني، أو ربما اليوم هي جراح القدس التي تعاني التهويد وليست جراح غزة.. ربما.. ولكنني بدأت الاستعداد، وعدت أحكي عن أهل فلسطين القدس وغزة والضفة، وأخبِّر عن ثبات وصمود وكفاح، أخبر عن حق أنكره العالم.




أخبِّر عن دروب الأقصى وأشجار الزيتون وحجارة المدينة العتيقة، أخبر وأحكي فيشتاق إليها أقراني وأزداد شوقا إليها في كل مرة أحكي عنها من جديد، استعذبت الحكاية والشجن، تماما كما استعذب المقاومون والمرابطون الجهاد والألم..





هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

سوف نخبر دائما يا اخ شهاب


بتبقي منور اينما كنت....وبرغم اني متكلمتش معاك بس يكفي اني اكون شايفك وتكون منور القعدة

شهاب الأزهر يقول...

أعزكم الله يا أبا نادية..

والله واحشاني القعدة معاك كتير