22‏/03‏/2011

"الزحف المقدس" في ليبيا.. 2

محمد البطاوي

الخميس 24 فبراير.. الخامسة صباحا


الشيخ صلاح سالم مسئول العلاقات العامة بجمعية الحكيم أمام مسجد عثمان بن عفان


بعد أداء صلاة الفجر في مصلى نقابة المحامين بمدينة مطروح (حيث قضينا ليلتنا)، تناولنا الإفطار ونحن نتابع آخر الأخبار قبل توجهنا إلى الأراضي الليبية، في جنبات صالة الطعام كانت العبارات المعلقة في داخل قاعة الطعام تؤكد أننا بالفعل موجودون في ليبيا، كلها تحمل تضامنا مطلقا مع الشعب الليبي، وتؤكد أن الدم الليبي والمصري واحد.


بعد تناول الإفطار أعدنا حزم حقائبنا وانطلقنا نحو معبر السلوم في السابعة صباحا، وفي الطريق توقفنا في سيدي براني لتغيير بعض الجنيهات المصرية إلى الدنانير الليبية، ثم واصلنا المسيرة نحو ليبيا.


على معبر السلوم بدأت مخاوفنا (الصحفيين المصريين الأربعة) تتعاظم من احتمال عدم دخولنا، البعض يقول: "لن يسمحوا إلا للأطباء".. وآخرون: "ليس معكم تصاريح صحفية رسمية".. إلى أن جاءت القاصمة: "جوازاتكم مرفوضة.. أنتم في سن التجنيد ولا تحملون تصاريح من القوات المسلحة المصرية"..


هنا همس أحد الأطباء: "حاولوا الدخول ببطاقات هويتكم المصرية، فالأطباء الذين لا يحملون جوازات سفر قاموا بتقديم بطاقاتهم وتم قبولها".. وهنا بدأنا الإجراءات مرة أخرى من البداية وفقا لبيانات بطاقة الهوية.


بعدها بفترة قالوا لنا إن الأوراق تم قبولها، لكنها الآن في مكتب "أمن الدولة" مع باقي أوراق الأطباء، تنفسنا الصعداء، وبدأنا نشعر بالسعادة.. لكن طول الانتظار غير المبرر، وبرودة الجو مع الهواء الشديد المحمل بالأتربة، جعلنا نشعر بالتوتر مرة أخرى.


بدأ بعض الأطباء الكبار يشعرون بالغضب من التجاهل والمماطلة، وبدأ الإعياء يبدو على بعض الأطباء الذين تسللوا إلى الباص ليسقطوا في نوم عميق.


بعد سبع ساعات كاملة، كانت المشاعر الغاضبة قد بلغت مداها، وهنا حشد الأطباء قوتهم، وتضامن معه الصيادلة والصحفيون الغلابة ودخلنا إلى مكتب أمن الدولة.. وتعالت الأصوات.


آخر عهدنا بالجهاز سيئ السمعة


لقد برز د.ياسر حينها مناضلا مفوها، وكال للضابط الذي حاول الاحتفاظ بابتسامته الشاحبة في أغلب الأوقات كلاما قاسيا: "أنتم لسه عايشين في العصر الحجري.. معاملة العصور الوسطى دي انتهت.. الناس هناك محتاجة لنا وبتموت وأنتم هنا بتماطلوا لعنجهيتكم المعهودة؟"..


وحاول الضابط أن يشرح للطبيب الثائر سبب التأخير لكن كل محاولاته ارتطمت بصخرة السؤال الذي راح يكرره الطبيب: "هل تستحق هذه المبررات أن يموت شخص ما هناك ونحن ننتظر هنا بسببها"... ولدى صمت الضابط المطبق صرخ د. ياسر: "5 دقائق بس مننا مراعاة للوضع، ولو ورقنا لم ينتهي مش هيحصل طيب.. الكتب دا بورقه بحاجته هيولع باللي فيه.. البلد مش ناقصة استفزاز.. احنا مش بنهدد لكن عيب كدا.. كفاية استفزاز وقلة أدب"..


انسحب د. ياسر من ميدان المعركة.. أقصد مكتب أمن الدولة، وانسحبنا خلفه على وعد بمعاودة الهجوم إن لم تنتهي أوراقنا.. وقد كان.. انطلق هجومنا مرة أخرى بعد 5 دقائق.. ولكن هذه المرة نحو ليبيا بعد استيفاء جميع الأوراق.. أطباء وصيادلة وصحفيين أيضا.


ركبنا الحافلة في سعادة غامرة، وبشعور المنتصر على فلول النظام السابق.. انطلقنا نحو ليبيا.. تجاوزنا الحدود، وطالعتنا بوابات "الجماهيرية القذافية" خاوية على عروشها، تجاوزنا أطلالها التي رفع الثوار عليها علم الاستقلال بدلا من العلم الأخضر، لنلتقي ببدايات الشعب الليبي في قرية "امساعد" الحدودية.


هناك ودعنا الحافلة الكبيرة التي كانت تضمنا جميعا، وانقسمنا إلى مجموعات صغيرة، كل مجموعة من 8 أفراد، في سيارات هيونداي ستاركس التي ستقلنا من هناك إلى مدينة البيضاء في الجبل الأخضر.


كان استقبال أهالي "امساعد" حافلا للغاية، أطلقوا صافرات الفرحة، وعانقونا بحرارة، وكتبوا على الجدران تحيات لمصر وشعبها.. وأصروا على حمل حقائبنا إلى السيارات الجديدة.


بمجرد استقلالنا السيارات الصغيرة وانطلاقنا نحو عمق ليبيا، هتف صديقي عبد الرحمن أبو الغيط الصحفي بكلمات القذافي ولكن بنكهة مختلفة: "بدأ الزحف المقدس.. إلى الأمام".. ضحك عيسى سائق السيارة من كلمات أبو الغيط.. وانطلق الزحف المقدس.


لو كان شيء من أفعال البشر منزها عن النقائص، فقد كان زحف الأطباء الذين معنا مقدسا بالفعل، غير أنه لا شيء من أفعال البشر منزها عن النقص أبدا، لقد كنت أحاول الاقتراب منهم والاحتكاكا بهم لشعوري بسمو رسالتهم بطريقة غريبة، كنت سعيدا بأنني أتفرس وجوههم وأرى ابتساماتهم رغم أننا مقبلون على المجهول.


بمجرد انطلاق السيارات سقطنا كلنا في نوم أقرب إلى الإغماء من فرط شعورنا بالإعياء بسبب انتظارنا لـ7 ساعات في الهواء الشديد المعبأ بالرمال، يتسلل صوت عيسى هاتفا وكأنه يأتي من بعيد: "هذه هي طبرق الحرة".. نجذب أجفاننا بتثاقل ليطالعنا جمال المدينة المحررة رغم سواد الليل الذي تتشح به، غير أنه لا يفلح ذلك الجمال الساحر في إبقاء أجفاننا مفتوحة لنسقط مجددا في النوم العميق.


على خط النار


على عكس صوت عيسى الذي دفعنا لجذب جفوننا بتثاقل؛ جاء صوت زخات الرصاص ليدفعنا إلى التحديق حولنا لنحدد مصدر صوت إطلاق الرصاص؛ اندفعت يدي نحو الكاميرا لأسجل بها تفاصيل المعركة التي تدور حولنا.. لكنني لم أجد إلا معركة الاستقبال الكريم.


كانت نقاط الحماية التي يقيمها أهالي الجبل الأخضر تحيينا على طريقتها.. زخات الرصاص تحت زخات المطر الثقيلة.. كان سواد الليل الدامس يلف المدينة البيضاء، لكنه لم يحجب جمالها، اتجهنا نحو مشفى شهداء الجبل (الثورة التعليمي سابقا)، كنا أول الواصلين من سرب الحافلات التي تقلنا، واجهنا حرارة الاستقبال العارم، كانوا يظنونا أطباء، لم يكن معنا في سيارتنا التي ضمتنا نحن الأربعة إلا طبيبان، وقفنا خلفهما ليتوليا التعامل مع أطباء المشفى بينما اكتفينا بالابتسام.


توجه إلينا شاب ثلاثيني يرتدي بالطو أسود ثقيل، وكلمنا بلهجة أقرب إلى المصرية: "أنتم كام طبيب؟".. أجبته: "نحن 4 صحفيين".. تهلل وجه الشاب قائلا لمن بجواره: "اتصل لي بفندق مرحبا واحجز لي حالا غرفتين مزدوجتين للأستاذة".


بادرناه فورا: "سننتظر الأطباء.. فنحن معنا مشرف للفوج و..".. قاطعنا الشاب بثقة: "لن تغيروا من الأمر شيئا".


وبعدها بقليل وصلت بقية السيارات مع د. هشام مشرف الفوج لتقابلهم الحرارة ذاتها، وبالفعل، لم يغير د.هشام من الأمر شيئا.


استقل معنا ذلك الشاب سيارتنا، وقال لنا معرفا نفسه: "اسمي صلاح سالم.. أعمل إماما وخطيبا بمسجد بلال بن رباح بالبيضاء.. حصلت على الماجستير في اللغة العربية من كلية الآداب جامعة عين شمس بالقاهرة".


طاف بنا الشيخ صلاح سالم أرجاء المدينة ليعرفنا بمعالمها في إطلالة سريعة، ثم توجه بنا إلى الفندق، وودعنا على وعد جديد بأن نلتقيهم في الصباح.

ليست هناك تعليقات: